منتديات قسم العلوم لمدرسة النجاة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

// سلسلة رائعة حول غزوات الاحزاب // ادخلوا ولن تندموا

اذهب الى الأسفل

// سلسلة رائعة حول غزوات الاحزاب // ادخلوا ولن تندموا Empty // سلسلة رائعة حول غزوات الاحزاب // ادخلوا ولن تندموا

مُساهمة من طرف Islam Nour الجمعة أبريل 09, 2010 8:55 am

مقدمة

تُعد غزوة الأحزاب من أهم الغزوات التي مرت بالمسلمين خلال سنوات المدينة المنورة العشر، ليس فقط لخطورتها أو صعوبتها أو لانتصار المسلمين فيها، ولكن لأنها كانت غزوة فارقة بين مرحلتين رئيستين من مراحل الحياة في المدينة المنورة...

فالوضع داخل الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة قبل وأثناء غزوة الأحزاب لم يكن مستقرًا أبدًا، فقد كانت المخاوف تأخذ المسلمين من كل جانب، وكانت القلاقل والاضطرابات تموج بالمدينة في كل يوم وفي كل ساعة، وكانت جموع الضلال والكفر تكيد للمسلمين في كل لحظة، وتجعل حياتهم سلسلة مضنية من الآلام والجراح والمكائد والفتن، وكانت جموع الضلال هذه تضم المدارس الفكرية والعقائدية المختلفة والمتشعبة في الجزيرة العربية، ففيها العرب المشركون سواء من قريش أو من غيرها، وفيها الأعراب حول المدينة، وفيها اليهود بكل جموعهم وقبائلهم، وفيها المنافقون الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر.

كل هذه الجموع كانت تؤجج نيران الفتنة في المدينة المنورة، وتجعلها وكأنها تعيش على أتون ملتهب لا يدع لمسلم وقتًا لراحة أو استقرار.

والذي يحلل الأوضاع قبل غزوة الأحزاب في السنة الخامسة يجد أن المسلمين كانوا قد حققوا انتصارًا مبهرًا في غزوة بدر، ولكن هذا الانتصار المبهر أتبع بثلاث مصائب كبرى، كانت أشهرها مصيبة أحد، والتي تحدثنا عنها بالتفصيل قبل ذلك واستشهد سبعون من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ثم أُتبعت هذه المصيبة بمصيبتين خطيرتين وهما مصيبة ماء الرجيع والتي قتل فيها عشرة من المسلمين، ومصيبة بئر معونة والتي قتل فيها سبعون من المسلمين، وكانت هاتان المصيبتان الأخيرتان بعد شهور قليلة جدًا من غزوة أحد، وذلك معناه أن المسلمين فقدوا في خلال أربعة أو خمسة أشهر مائة وخمسين من خيرة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وهذا رقم هائل بالنسبة للجماعة المسلمة في ذلك الوقت.

والمحلل للأحداث أيضًا قبل الأحزاب يجد أن المسلمين حققوا انتصارين كبيرين على قبيلتين من قبائل اليهود وهما بنو قينقاع وبنو النضير، وتم إجلاؤهما من المدينة المنورة، لكن ما زال الوضع غير مستقر حتى بعد إجلاء هاتين القبيلتين الكبيرتين، فزعماء بني النضير وعلى رأسهم حيي بن أخطب ما زالوا أحياءً، وقد هاجروا إلى خيبر في شمال المدينة، وهم يضمرون كل الشر للمسلمين، ولن يهدأ لهم بال إلا بالكيد للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وغير زعماء بني النضير، فهناك القبيلة الخطيرة بنو قريظة، والتي ما زالت تقبع في الجنوب الشرقي للمدينة المنورة، وهي قبيلة ذات حصون وقلاع وسلاح ورجال.

وهي وإن كانت تعاهد المسلمين معاهدة دفاع مشترك عن المدينة وحسن جوار؛ إلا أنهم كعامة اليهود لا أمان ولا عهد لهم.

وهكذا فالوضع قبل الأحزاب، وأثناء الأحزاب كان في غاية الخطورة وعدم الاستقرار.

استمرت غزوة الأحزاب شهرًا كاملا، وكانت فيها أحداث كثيرة مثيرة ومتشعبة.

ثم انتهت الغزوة برحيل المشركين وأعوانهم وانتصار المسلمين على قلتهم وضعفهم انتصارًا عجيبًا، ووجه العجب أنه كان انتصارًا دون قتال تقريبًا، وذلك كما قال ربنا في كتابه: [وَرَدّ َاللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا] {الأحزاب: 25}.

ومع ذلك سمعنا تعليقًا عجيبًا أيضًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الأحزاب أثبتت الأيام بعد ذلك مدى عمقه وقدرته على وصف الأحداث.

قال الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في البخاري تعليقًا على انتهاء غزوة الأحزاب: الْآنَ نَغْزُوهُمْ وَلَا يَغْزُونَا، نَحْنُ نَسِيرُ إِلَيْهِمْ.

وفعلا بانتهاء غزوة الأحزاب استقر الوضع في المدينة المنورة، وما عادت تخاف من أي تهديد، وما فكر أعداء الله في غزوها بعد ذلك، بل كانت الجيوش الإسلامية تخرج منها إلى كل مكان في الجزيرة العربية وخارج الجزيرة.

لقد كانت غزوة الأحزاب غزوة فارقة في حياة الأمة الإسلامية، وغزوة محورية في بناء الكيان الإسلامي الراسخ.

وغزوة بهذه القيمة وبهذه الآثار، لا بد أن تدرس بعناية، وتحلل بعمق، لنستخرج منها الأسس التي على أساسها تم هذا النصر المبين، ولنعرف الضوابط الشرعية التي حكمت الجماعة المسلمة في هذه الفترة الحرجة من حياة الأمة.

وتستمد دراسة غزوة الأحزاب أهمية خاصة في زماننا الآن، وذلك لكثرة الأحداث التي تشبهها، فما أكثر الأحزاب التي تحزبت ضد أمة الإسلام في زماننا الآن، وما أكثر الشبه بين هذه الأحزاب الحديثة وبين الأحزاب التي تجمعت أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء من ناحية طرق التجميع، أو من ناحية المدارس الفكرية، أو من ناحية الخطة والتنظيم.

تشابه كبير جدًا بين الماضي والحاضر، وهذا يعطي أهمية قصوى لمراجعة مصادرنا الأصيلة في تحليل الأحداث، وأهم هذه المصادر مصدران هما الكتاب والسنة، ففي كتاب الله عز وجل تعليق مباشر عميق معجز عن غزوة الأحزاب، وقد ترك الله عز وجل في هذا التعليق ذكر الأسماء والشخصيات ليتحدث عن سمات عامة وأصول ثابتة لتصلح بعد ذلك هذه التعليقات لكل زمان ومكان، وكذلك في السنة المطهرة، فقد مر الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته بعد البعثة بكل المتغيرات والأحداث التي من الممكن أن تمر بها الأمة في أي زمان ومكان، ومن ثَم تستطيع أن تجد ضالتك في إحدى غزواته أو مواقفه صلى الله عليه وسلم، فقط عليك أن تعرف بدقة الظروف التي تمر بها الأمة في فترة ما وفي مكان ما، ثم تبحث عن الفترة التي تشبه هذه الفترة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم تدرس هذه الفترة بعمق، وتأخذ بعناية المنهج النبوي في التعامل مع الأحداث، ثم تسير بدقة وإخلاص على نفس الطريق الذي سار فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتصل بفضل الله إلى موعود الله.

هذا المنهج في البحث والتطبيق يضمن لك السلامة من كل زيغ أو ضلال، روى عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

إِنَّهُ مَنْ يَعْشُ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ.

وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم هي طريقنا في الحياة، وكذلك منهجه في معالجة الأمور وأسلوبه في التفاعل مع الأحداث، وهذا كله حي ينبض في كل صفحة من صفحات سيرته صلى الله عليه وسلم، وفي كل لحظة من لحظات حياته صلى الله عليه وسلم.

فماذا حدث في غزوة الأحزاب؟


مقدمات الغزوة



تحرك الغل والحقد والحسد في قلوب اليهود، وخاصة أولئك الذين أجلاهم الرسول صلى الله عليه سلم مؤخرًا من بني النضير، وكانوا كما وصفهم الله عز وجل تمامًا في سورة المائدة: [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا] {المائدة:82} .

فهم أشد الناس في عداوتهم للمؤمنين، وقدم الله عز وجل عداوتهم على عداوة المشركين مع شدة عداوة المشركين، وذلك لأن اليهود لا يكتفون بكرههم وحقدهم، بل يؤلبون الفتن في كل مكان، ويحركون غيرهم لحرب المسلمين، وغزوة الأحزاب مثال يؤكد على ذلك.

قام فريق من يهود بني النضير والذين كانوا يستقرون في خيبر، وعلى رأسهم حيي بن أخطب النضري، وسلام بن أبي الحقيق النضري، وكنانة بن الربيع النضري، وغيرهم من زعماء اليهود، وكان الوفد يزيد على عشرين يهوديًا، واتجه هذا الوفد إلى قبائل العرب يجمعها ويحزبها ويشجعها على الائتلاف والتحالف لحرب المسلمين.

وكان هدفهم استئصال المسلمين تمامًا، وليس الانتصار في غزوة عابرة، ولكن إنهاء الوجود الإسلامي من الأرض، ذهب هذا الوفد الشيطاني إلى قريش، ودارت بينه وبينها مفاوضات خطيرة، فالوفد اليهودي طلب صراحة من قريش أن يتجمعوا لحرب المسلمين في المدينة المنورة، وأن على قريش أن تجمع حلفائها وأنصارها من القبائل المختلفة، وسيتولى اليهود جمع القبائل الأخرى البعيدة عن قريش في المكان، أو البعيدة عنهم في النسب، وسيقوم اليهود أيضًا بالمساعدة والنصرة للجموع المشركة في حربها ضد المسلمين.

هنا استغلت قريش الفرصة لتسمع من اليهود إجابة عن سؤال حيّر قريشا قبل ذلك كثيرًا وما زال يحيرها، وهو أي الفريقين خير مقامًا وأحسن منهجًا ؟ أهم أم المسلمون؟

والمشركون في قرارة أنفسهم يعلمون أن محمدًا صلى الله عليه وسلم جاء بالحق، وأن دينه هو الدين الذي يجب أن يتبع، لكنهم اتبعوا أهوائهم، وأفسدوا فطرتهم، وخافوا على مصالحهم، فقرروا أن يحاربوا الإسلام إلى النهاية ويصدوا عن سبيل الله إلى آخر مدى.

وهم مع ذلك لا يقتنعون بما في أيديهم من مناهج، وأين الثرى من الثريا؟ وأين السماء من الأرض؟ وأين عبادة الله تعالى ملك السموات والأرض وما بينهما من عبادة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى؟

ولذلك فهم أحوج ما يكونون إلى من يقول لهم: مناهجكم صحيحة، ومعتقداتكم سليمة، فانتهزوها فرصة وقالوا لليهود: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟

سؤال مباشر يعبر عن مدى الاضطرابات الداخلية في نفوس الكافرين.

واليهود هم اليهود، يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله، واليهود أهل بهت وكذب وضلال، لقد قالوا في وقاحة وجحود: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه.

ووالله إن المرء ليعجب من هؤلاء وهؤلاء، فالعجب كل العجب من اليهود الذين حالفوا المشركين على وثنيتهم، وتركوا المسلمين وهم أقرب إليهم، وأيدوا باطل الأصنام وخذلوا حق الإسلام، وصدوا عن سبيل الله وهم يعلمونه، وكذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يرون دلائل نبوته وآيات صدقه كما جاءت بذلك كتبهم.

والعجب أيضًا كل العجب من هؤلاء المشركين الذين عايشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قرب، وامتحنوا بأنفسهم أخلاقه وصدقه وأمانته وعفافه، وعلموا علمًا يقينيًا أنه لم ولن يكذب أبدًا، وشهدوا جميعًا بذلك في أكثر من موقف، ثم هم الآن يكذبونه، ويصدقون اليهود مع علمهم التام بأنهم أهل بهت وخيانة.

وفي هذا الموقف المزري الذي وقفته قريش مع اليهود أنزل الله عز وجل آيات بينات تكشف لنا خبايا نفوسهم.

قال تعالى: [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا(51)أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا] {النساء:51، 52}.

واتفق اليهود مع مشركي قريش، واجتهد كل فريق في إتمام مهمته على الوجه الأكمل...

وقفات هامة مع دور اليهود:

أولا:

وضح لنا في هذا الموقف أحد أساليب اليهود الرئيسية في الكيد والمؤامرة، وهو الكذب وتزييف الحقائق وتزيين المنكر، وإن كان هذا قد حدث بهذه الصورة البسيطة في هذا الموقف، فهو يحدث بصورة أكثر تعقيدًا في زماننا الآن، وذلك عن طريق امتلاك وسائل الإعلام المختلفة في العالم، ومحاولة تزييف الحقائق عن طريقها، والذي يراجع تاريخ اليهود وواقعهم يجد اهتمامهم بجمع الوسائل الإعلامية من صحافة ومجلات وفضائيات ووكالات أنباء ومواقع إنترنت وجهات إعلامية بحثية وغير ذلك، يجد هذا الاهتمام مكثفًا وهائلا، وعن طريق هذا الزخم الإعلامي الضخم يغيرون أفكار الناس حسبما يريدون، ولا بد كما كشف القرآن ضلالهم بهذه الآيات أن يركز المسلمون الآن جهودهم لكشف هذه الادعاءات اليهودية، والرد عليها.

ثانيًا:

أن اليهود وضعوا أيديهم في يد المشركين على اختلاف أيدلوجياتهم وسياساتهم ومناهجهم الفكرية وعقائدهم الدينية، وقبل المشركون بهذا التحالف مع كونهم لا يؤمنون باليهودية ولا بالرسالات السماوية بصفة عامة، ولكن الكفر ملة واحدة. واجتماع الأحزاب المختلفة على اتساع مشاربها، واختلاف هويتها سنة من سنن مقاومة الحق، والأمثلة في التاريخ أكثر من أن تحصى، وكذلك في واقعنا الآن، وعلى المسلمين أن يفقهوا ذلك جيدًا، وليس أدل على ذلك من اتحاد اليهود والنصارى في حرب المسلمين مع شدة كراهية اليهود للنصارى، وشدة كراهية النصارى لليهود.

قال الله تعالى: [وَقَالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ اليَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتَابَ] {البقرة:113}.

ومع ذلك فعند حرب الإسلام تذوب هذه الفوارق والعداوات، وتبقى الرغبة المشتركة في هدم الإسلام والكيد لأهله.

ثالثًا:

أن اليهود حركوا قريشًا وسيحركون غطفان، وسيجمعون عشرة آلاف مقاتل، ومع ذلك فهم لن يشاركوا في الحرب بصورة مباشرة إلا عند الاضطرار في النهاية.

وهذا أسلوب يهودي قديم، وما زال يستخدم إلى الآن، فهم يحركون جيوش الغير، وطاقات الدول الأخرى، ولا يظهرون هم في الصورة، وهذا يحفظ لهم البقاء، ويحمي أرواحهم وأموالهم، قال الله تعالى في شأنهم: [وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ] {البقرة:96} .

فها هم المشركون يضحون بأرواحهم وأموالهم لحرب المسلمين، واليهود الأشد عداوة يراقبون عن بعد، ويحركون الأحداث بأصابع خفية.

وهكذا بدأت قريش تنشط في جمع حلفائها ومعاونيها من كنانة ومن أهل تهامة ومن بني سليم، فتكون لديها أربعة آلاف مقاتل.

وانطلق اليهود إلى مجموعة ضخمة من القبائل تُعرف بقبائل بني غطفان في شرق المدينة، وعلى مسافة بعيدة من مكة، فالتقوا بزعمائها، وطلبوا منهم تجميع الجيوش والتحالف مع قريش لحرب المسلمين.

لكن قبائل غطفان لم يكن عندها من الحماسة ما كان عند قريش، وليس لها تاريخ طويل من العداء مثل الذي عند أهل مكة، فلم يتحركوا التحرك الذي أراده اليهود، ولم ينفع كذب اليهود وتحريفهم للحقائق في إقناع بني غطفان في الخروج، فماذا يفعل اليهود؟

لقد استخدموا سلاحهم التقليدي الثاني بعد الكذب وهو المال، فالذي لا يتغير فكره واعتقاده نتيجة التزوير الإعلامي من الممكن أن يُشترى بالمال، فتعامل اليهود مع بني غطفان كما يتعاملون مع أي مرتزقة مأجورين، لقد عرضوا عليهم ثمار خيبر لمدة سنة كاملة نظير تجميع ستة آلاف غطفاني، للتحالف مع قريش ضد المسلمين.

وقبلت غطفان العرض المغري وسال لعابهم للمال اليهودي، وبدءوا في تجميع الجيوش من قبائلهم وبطونهم المختلفة.

وخرج زعماء غطفان يطلبون دنيا اليهود، فخرج عيينة بن حصن في بني فزارة، وخرج الحارث بن عوف في بني مرة، وخرج مسعر بن رخيلة في أشجع، وغيرهم وغيرهم، وجمعوا بالفعل ستة آلاف مقاتل.

والشاهد في هذا الموقف أن اليهود مع حبهم الشديد للمال وحرصهم عليه واتصافهم على العموم بالبخل، إلا أنهم ينفقون هذا المال بغزارة إن كانوا سيستخدمونه في حرب الدين وتزييفه، ومقاومة العقيدة السليمة، ونشر الإباحية والمجون، فهذه مجالات لا يبخل فيها اليهود بأموالهم، بل ينفقونها بسخاء، ويتنازلون عنها بشكل قد يستغربه من لا يعرف حقيقة اليهود من الداخل.

وبهذا الإعداد والتنسيق جمع اليهود من مشركي العرب عشرة آلاف مقاتل لحرب المسلمين، وهو رقم لم تسمع به الجزيرة العربية قبل ذلك، وكان العرب إذا أرادوا التفاخر بكثرة العدد قالوا: إنا لنزيد على الألف، ولن يغلب ألف من قلة. فكيف بعشرة آلاف؟!

لا شك أن هذا اختبار لأهل المدينة يفوق ما قبله من اختبارات.

والحقيقة التي يجب أن يفقهها المسلمون، هو أنه إذا كان الله عز وجل يريد نصرًا وتمكينًا للمسلمين فإن هذا النصر يسبقه امتحان وابتلاء للتفرقة بين المؤمنين والمنافقين، وكلما اقترب النصر كلما ازداد البلاء، وعندما يصل المسلمون إلى مرحلة الذروة في الابتلاء يأتي نصر الله عز وجل في وقت لا يتوقعه أحد على الإطلاق.

يقول الله تعالى: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ] {البقرة:214

متى يكون النصر قريبًا؟

يكون قريبًا إذا وصل المسلمون إلى مرحلة الزلزال.

يكون قريبًا عندما تصل الفتنة إلى ذروتها.

يكون قريبًا عندما يعلو نجم الباطل، وتنتعش قوته، وتتعاظم إمكانياته.

يكون قريبًا عند تجمع الأحزاب وعند تحالف شياطين الإنس والجن لاستئصال المؤمنين.

عند هذه الأحداث يكون النصر قريبًا فعلا.

لذلك إذا ادلهمت الخطوب وأظلمت الدنيا، وتكالبت قوى الشر والبغي على المسلمين، فإن كل هذه الأحداث لا يجب أن تحبط المسلمين، أو تشعرهم أنه لا فائدة، بل على العكس من ذلك تمامًا، فإن هذه الأحداث توحي بقرب النصر والتمكين، ومن ثم فهي تؤيد المؤمن وتثبته، والأمر في النهاية مرتبط بيقين الإنسان وقوة إيمانه، فالذي يعتقد تمام الاعتقاد في قدرة رب العالمين وجبروته وعزته وصدقه يعلم أن الله عز وجل وعد بتجمع الأحزاب حول المسلمين، كما وعد بتحقق النصر للمؤمنين بعد تجمع الأحزاب، فالمؤمن حقًا عندما يرى تجمع الأحزاب يعلم أن هذه إمارة لقرب النصر، ومن ثم يطمئن ويسكن ويعلم أن الخير قادم.

وهذا ما فعله المؤمنون في المدينة المنورة عندما وصلتهم أنباء تجمع الجيوش الكافرة، فقد علموا أن هذه أمارة النصر، وتبين لهم صدق موعود الله في الجزئية الأولى وهي تجمع الأحزاب، وحتمًا سيتحقق صدق الله في الجزئية الثانية وهي نصر المؤمنين، لذلك استقبلوا الأمر بثبات، وازداد يقينهم وإيمانهم بالله.

وفي هذا يقول الله تعالى في كتابه الكريم: [وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا] {الأحزاب:22}.

أما المنافقون فلا يعرفون إلا حسابات الورقة والقلم، ولا يقدرون لله قدره، ولا يؤمنون بوعده، بل يحكمون عقولهم في كل صغيرة وكبيرة، فينظر هؤلاء المنافقون إلى أعداد المشركين الهائلة فيقولون: هذه أعداد لا تغلب، وهذه قوة لا تهزم، فالفجوة بيننا وبينهم هائلة، ولا طاقة لنا بهم، ومهما وعدنا بالنصر فهذا وعد مكذوب، وأوهام لا وجود لها على أرض الواقع.

يقول ربنا في وصف هؤلاء المنافقين: [وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا] {الأحزاب:12}.

فتنطق ألسنتهم بما في قلوبهم من أن هذا الوعد بالنصر مستحيل، ويجاهرون بذلك، وقد يسارعون إلى الانضمام إلى أعداء الأمة، والتبرؤ من الأمة الإسلامية.

ظهر على المنافقين نفاق معظمهم، وقالوا لا طاقة لنا أبدًا بحربهم، وظهر على بعضهم علامات الهلع والخوف، لم يكتفوا بإظهار ذلك على أنفسهم بل حاولوا أن يثبطوا همم الآخرين، بأنها حرب لا طائل من ورائها، قال الله عز وجل: [قَدْ يَعْلَمُ اللهُ المُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ البَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا(18)أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ] {الأحزاب:18، 19}. هذا رد فعل المنافقين.

وهذا الوضوح في الأمر ما كان ليحدث لولا أن الخطب جلل، والحدث عظيم، والفتنة كبيرة، وإلا لو كانت صغيرة أو عابرة لكتم المنافقون نفاقهم في قلوبهم، وظهرت على ألسنتهم كلمات الشجاعة والإقدام، وهذا من أهم أدوار الابتلاءات الكبرى والامتحانات العظمى أنها تفرق بين المؤمن والمنافق، قال الله تعالى: [مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ]. {آل عمران:179}

فإذا تميز الصف، وخلص الفريق المؤمن من الخبث المنافق حدث الصدام المروع مع أهل الباطل، وهذا الصدام إذا تم بفريق مؤمن خالص الإيمان خال من النفاق فإنه يتبع بنصر بين، ومجد عظيم للإسلام والمسلمين.

فهذه مراحل حتمية تمر بها الأمة قبل النصر؛ ارتفاع مطرد في معدل الابتلاء والاختبار، ثم الوصول إلى مرحلة الزلزال، وهي أعلى درجات الابتلاء والفتنة، ثم تمايز الصف إلى مؤمن ومنافق، ثم إقدام المؤمنين ثابتين وقد خلص صفهم من المنافقين، ثم نصر من الله وفتح مبين.

وليس معنى هذا أن المسلمين يتلقون أنباء الحصار وتجمع الأحزاب بفرح وسعادة لقرب النصر، فإن قوة إيمان المؤمنين لا تخرجهم عن كونهم من البشر.
Islam Nour
Islam Nour
طالب
طالب

عدد المساهمات : 27
النقاط : 51340
التقييم : 1
تاريخ التسجيل : 02/04/2010
العمر : 28
الهوايات : كرة القدم - الانترنت - قراءه الكتب التاريخيه

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى